فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (15- 16):

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}
قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك العطيفي، قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ كان رجلا أو امرأة أو أرضا؟ قال: «كان رجلا من العرب وله عشرة من الولد، تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة، فأما الذين تيامنوا: فكندة، والأشعريون، وأزد، ومذحج، وأنمار، وحمير، فقال رجل: وما أنمار؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة: وأما الذين تشاءموا: فعاملة، وجذام، ولخم، وغسان، وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان». {فِي مَسْكَنِهِمْ} قرأ حمزة، وحفص: {مسكنهم} بفتح الكاف، على الواحد، وقرأ الكسائي بكسر الكاف، وقرأ الآخرون: {مساكنهم} على الجمع، وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن، {آيَةٌ} دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا، ثم فسر الآية فقال: {جَنَّتَانِ} أي: هي جنتان بستانان، {عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أي: عن يمين الوادي وشماله. وقيل: عن يمين من أتاهم وشماله، وكان لهم واد قيل أحاطت الجنتان بذلك الوادي {كُلُوا} أي: وقيل لهم كلوا، {مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} يعني: من ثمار الجنتين، قال السدي ومقاتل: كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلىء مكتلها من أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئا بيدها، {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: على ما رزقكم من النعمة، والمعنى: اعملوا بطاعته، {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي: أرض سبأ بلدة طيبة ليست بسبخة، قال ابن زيد: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كله من طيب الهواء، فذلك قوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي: طيبة الهواء، {وَرَبٌّ غَفُورٌ} قال مقاتل: وربكم إن شكرتموه فيما رزقكم رب غفور للذنوب. {فَأَعْرَضُوا} قال وهب: فأرسل الله إلى سبأ ثلاثةً عشر نبيًا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم، وقالوا: ما نعرف لله عز وجل علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعم عنا إن استطاع، فذلك قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} و{العرم}: جمع عرمة، وهي السكر الذي يحبس به الماء.
وقال ابن الأعرابي: {العرم} السيل الذي لا يطاق، وقيل: كان ماء أحمر، أرسله الله عليهم من حيث شاء، وقيل: {العرم}: الوادي، وأصله من العرامة، وهي الشدة والقوة.
وقال ابن عباس، ووهب، وغيرهما: كان ذلك السد بنته بلقيس، وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم، وهو المسناة بلغة حمير، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار وجعلت له أبوابًا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا سدوها، فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة فكانت تقسمه بينهم على ذلك، فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذًا يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وخرب أرضهم. قال وهب: وكان مما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله عز وجل بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فثقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون بذلك فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قطع السد، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل، ففرقوا وتمزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب، يقولون: صار بنو فلان أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي: تفرقوا وتبددوا، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قرأ العامة بالتنوين، وقرأ أهل البصرة: {أكل خمط} بالإضافة، الأكل: الثمر، والخمط: الأراك وثمره يقال له: البرير، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال المبرد والزجاج: كل نبت قد أخذ طعمًا من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط.
وقال ابن الأعرابي: الخمط: ثمر شجرة يقال له فسوة الضبع، على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به، فمن جعل الخمط اسمًا للمأكول فالتنوين في {أكل} حسن، ومن جعله أصلا وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة، والتنوين سائغ، تقول العرب: في بستان فلان أعناب كرم، يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه.
{وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} فالأثل هو الطرفاء، وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه، والسدر شجر معروف، وهو شجر النبق ينتفع بورقه لغسل الرأس ويغرس في البساتين، ولم يكن هذا من ذلك، بل كان سدرًا بريا لا ينتفع به ولا يصلح ورقة لشيء.
قال قتادة: كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم.

.تفسير الآيات (17- 18):

{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)}
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} أي: ذلك الذي فعلنا بهم جزيناهم بكفرهم، {وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، ويعقوب: {وهل نجازي} بالنون وكسر الزاي، {الكفور} نصب لقوله: {ذلك جزيناهم}، وقرأ الآخرون بالياء وفتح الزاي، {الكفور} رفع، أي: وهل يجازي مثل هذا الجزاء إلا الكفور.
وقال مجاهد: يجازي أي: يعاقب. ويقال في العقوبة: يجازي، وفي المثوبة يجزي.
قال مقاتل: هل يكافأ بعمله السيء إلا الكفور لله في نعمه.
قال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازى، أي: يجزى للثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته. {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالماء والشجر، هي قرى الشام، {قُرًى ظَاهِرَةً} متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها، وكان متجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام.
وقيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام.
{وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي: قدرنا سيرهم بين هذه القرى، وكان مسيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار.
وقال قتادة: كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها، وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من الثمار، وكان ما بين اليمن والشام كذلك. {سِيرُوا فِيهَا} أي: وقلنا لهم سيروا فيها، وقيل: هو أمر بمعنى الخبر أي: مكناهم من السير فكانوا يسيرون فيها، {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} أي: بالليالي والأيام أي وقت شئتم، {آمِنِينَ} لا تخافون عدوًا ولا جوعًا ولا عطشًا، فبطروا وطغوا ولم يصيروا على العافية، وقالوا: لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه.

.تفسير الآيات (19- 20):

{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد، فعجل الله لهم الإجابة. وقال مجاهد: بطروا النعمة وسئموا الراحة.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بعد بالتشديد من التبعيد، وقرأ الآخرون: باعد، بالألف، وكل على وجه الدعاء والسؤال، وقرأ يعقوب: {ربنا} برفع الباء، {باعد} بفتح العين والدال على الخبر، كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة بطروا وأشروا.
{وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالبطر والطغيان. {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم، {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق. قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، أما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان، وخزاعة إلى تهامة، ومر آل خزيمة إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر، وهو جد الأوس والخزرج.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} لعبرًا ودلالات، {لِكُلِّ صَبَّارٍ} عن معاصي الله، {شَكُورٍ} لأنعمه، قال مقاتل: يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شاكر للنعماء. قال مطرف: هو المؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} قرأ أهل الكوفة: {صدق} بالتشديد أي: ظن فيهم ظنًا حيث قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} [ص 82]، {ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف 17] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه، وقرأ الآخرون بالتخفيف، أي: صدق عليهم في ظنه بهم، أي: على أهل سبأ. وقال مجاهد: على الناس كلهم إلا من أطاع الله، {فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال السدي عن ابن عباس: يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين، وقد قال الله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر- 42]، يعني: المؤمنين. وقيل: هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه.
قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله، قال لأغوينهم ولأضلنهم، لم يكن مستيقنًا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظنًا، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم.
قال الحسن: إنه لم يسل عليهم سيفًا ولا ضربهم بسوط وإنما وعدهم ومناهم فاغتروا.

.تفسير الآيات (21- 23):

{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي: ما كان تسليطنا إياه عليهم، {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أي: إلا لنعلم، لنرى ونميز المؤمن من الكافر، وأراد علم الوقوع والظهور، وقد كان معلومًا عنده بالغيب، {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} رقيب. {قَلْ} يا محمد لكفار مكة، {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم آلهة، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وفي الآية حذف، أي: ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل بكم في سني الجوع، ثم وصفها فقال: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ} من خير وشر ونفع وضر {وَمَا لَهُمْ} أي: للآلهة، {فِيهِمَا} في السموات والأرض، {مِنْ شِرْكٍ} شركة، {وَمَا لَهُ} أي: وما لله، {مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} عون. {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الله في الشفاعة، قاله تكذيبًا لهم حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: {أذن} بضم الهمزة.
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قرأ ابن عامر، ويعقوب بفتح الفاء والزاي، وقرأ الآخرون بضم الفاء وكسر الزاي أي: كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم، فالتفريغ إزالة الفزع كالتمريض والتفريد.
واختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة، فقال قوم: هم الملائكة، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم: إنما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل. وروينا عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}».
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، قال: أنبأني محمد بن الفضل بن محمد، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، أخبرنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، أخبرنا نعيم بن حماد، أخبرنا أبو الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي زكريا، عن رجاء بن حيوة، عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفًا من الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله». وقال بعضهم إنما يفزعون حذرًا من قيام الساعة.
قال مقاتل والكلبي والسدي: كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، خمسمائة وخمسين سنة، وقيل ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحيًا، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرسالة فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عند أهل السموات من أشراط الساعة، فصعقوا مما سمعوا خوفًا من قيام الساعة، فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ قالوا: قال الحق، يعني الوحي، وهو العلي الكبير.
وقال جماعة: الموصوفون بذلك المشركون.
قال الحسن وابن زيد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا: الحق، فأقروا به حين لا ينفعهم الإقرار.

.تفسير الآيات (24- 28):

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)}
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} فالرزق من السموات: المطر، ومن الأرض: النبات، {قُلِ اللَّهُ} أي: إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت إن رازقكم هو الله، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة الإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل للآخر: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب.
والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال، فالنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه على الهدى، ومن خالفه في ضلال، فكذبهم من غير أن يصرح بالتكذيب.
وقال بعضهم: {أو} بمعنى الواو، والألف فيه صلة، كأنه قال: وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، يعني: نحن على الهدى وأنتم في الضلال. {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يعني: يوم القيامة، {ثُمَّ يَفْتَحُ} يقضي، {بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} أي: أعلموني الذين ألحقتموهم به، أي: بالله، شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون، {كَلا} لا يخلقون ولا يرزقون، {بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} الغالب على أمره، {الْحَكِيمُ} في تدبيره لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه. قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} يعني: للناس عامة أحمرهم وأسودهم، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي: مبشرًا ومنذرًا، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وروينا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». وقيل: كافة أي: كافًا يكفهم عما هم عليه من الكفر، والهاء للمبالغة.